سورة الزلزلة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزلزلة)


        


{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)}
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها} يَوْمَئِذٍ منصوب بقوله: إِذا زُلْزِلَتِ.
وقيل: بقوله تُحَدِّثُ أَخْبارَها، أي تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل: هو من قول الله تعالى.
وقيل: من قول الإنسان، أي يقول الإنسان مالها تحدث أخبارها، متعجبا.
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: «أتدرون ما أخبارها- قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها». قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي، قوله يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها: فيه ثلاثة أقاويل: أحدها- تُحَدِّثُ أَخْبارَها بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
الثاني- تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها، قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة. قلت: وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال: «إذا كان أجل العبد بأرض أو ثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه الله، فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما استودعتني». أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم.
الثالث: أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها؟ قاله ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل: أحدها- أن الله تعالى يقلبها حيوانا ناطقا، فتتكلم بذلك.
الثاني- أن الله تعالى يحدث فيها الكلام.
الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري: تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى. {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} أي إنها تحدث أخبارها بوحي الله لَها، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع {إلى}. قال العجاج يصف الأرض:
وحى لها القرار فاستقرت *** وشدها بالراسيات الثبت
وهذا قول أبي عبيدة: أَوْحى لَها أي إليها.
وقيل: أَوْحى لَها أي أمرها، قاله مجاهد.
وقال السدي: أَوْحى لَها أي قال لها. وقال: سخرها.
وقيل: المعنى يوم تكون الزلزلة، وإخراج الأرض أثقالها، تحدث الأرض أخبارها، ما كان عليها من الطاعات والمعاصي، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره. {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً} أي فرقا، جمع شت. قيل: عن موقف الحساب، فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43].
وقيل: يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. أَشْتاتاً يعني فرقا فرقا. {لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ} يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا ازددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي» وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول: {أَشْتاتاً} متفرقين على قدر أعمالهم أهل الايمان على حدة، واهل كل دين على حدة.
وقيل: هذا الصدور، إنما هو عند النشور، يصدرون أشتاتا من القبور، فيصار بهم إلى موقف الحساب، ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم، فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها، ثم صدروا عنها. والوارد: الجائي. والصادر: المنصرف. أَشْتاتاً أي يبعثون من أقطار الأرض. وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير، مجازه: تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، ليروا أعمالهم. واعترض قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً} متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة {لِيُرَوْا} بضم الياء، أي ليريهم الله أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج ونصر ابن عاصم وطلحة بفتحها، وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} كان ابن عباس يقول: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة.
وفي بعض الحديث: «الذرة لا زنة لها» وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]. وقد تقدم الكلام هناك في الذر، وأنه لا وزن له. وذكر بعض أهل اللغة أن الذر: أن يضرب الرجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الدر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة.
وقال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله واهلة وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير. ومن يعمل، مثقال ذرة من شر من مؤمن، يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وماله وولده واهلة، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. دليله ما رواه العلماء الإثبات من حديث أنس: أن هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال: «ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير، حتى تعطوه يوم القيامة». قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] كان أحدهم يأتيه السائل، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة. وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، ويحدرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، وقاله سعيد بن جبير. والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شي.
الثانية: قراءة العامة {يره} بفتح الياء فيهما. وقرأ الجحدري والسلمى وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم: {يره} بضم الياء، أي يريه الله إياه. والأولى الاختيار، لقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [آل عمران: 30] الآية. وسكن الهاء في قوله: {يره} في الموضعين هشام. وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة. واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة. وأشبع الباقون. وقيل يَرَهُ أي يرى جزاءه، لان ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى. وأنشدوا:
إن من يعتدي ويكسب إثما *** وزن مثقال ذرة سيراه
ويجازى بفعله الشر شرا *** وبفعل الجميل أيضا جزاه
هكذا قوله تبارك ربي *** في إذا زلزلت وجل ثناه
الثالثة: قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن، وصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية، القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
وروى كعب الأحبار أنه قال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} قال: في الحال قبل المآل. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة، كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد، لان البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر، فلما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما في الخيل من الأجر الدائم، والثواب المستمر، سأل السائل عن الحمر، لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدلدل، التي أهداها له المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة، قاله ابن العربي.
وفي الموطأ: أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها. فجعل ينظر إليها ويعجب، فقال: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. وروي عن سعد بن أبي وقاص: أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة.
وروى المطلب بن حنطب: أن أعرابيا سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة! قال: «نعم فقال الاعرابي: وا سوأتاه! مرارا: ثم قام وهو يقولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دخل قلب الاعرابي الايمان».
وقال الحسن: قدم صعصعة عم الفرزدق على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما سمع فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآيات، قال: لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حسبي، فقد انتهت الموعظة، ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروى أن صعصعة ابن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية، فقال صعصعة: حسبي حسبي، إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته.
وروى معمر عن زيد ابن أسلم: أن رجلا جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه، فعلمه إِذا زُلْزِلَتِ- حتى إذا بلغ- فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال: حسبي. فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «دعوه فإنه قد فقه». ويحكي أن أعرابيا أخر خَيْراً يَرَهُ فقيل: قدمت وأخرت. فقال:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه *** كلا جانبي هرشى لهن طريق

1 | 2